على الجريمة
بداية عام 2006، اعترف السعودي فيصل أكبر بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق
الحريري، ثم تراجع عن إفادته، مخلفاً وراءه أسئلة يصعب أن تجد من يجيب
عنها. فمن السهل تبرير معرفته ببعض تفاصيل عملية الاغتيال، لكن ما يصعب
تفسيره هو أن فيصل أورد خلال استجوابه معلومات تتعلق بجريمة الاغتيال قبل
أربعة أشهر من توصل المحققين إلى معرفتها!
حسن عليقليس محمد زهير الصديق الشخص الوحيد الذي اعترف بمشاركته في التخطيط
لاغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ فثمة مَن أقرّ بأنه شارك في التنفيذ المباشر
للجريمة، ضمن خلية تبين أن لها صلات تنظيمية وفكرية مع تنظيم «القاعدة»
العالمي. هو السعودي فيصل أكبر الذي أوقف في نهاية عام 2005، وحقق معه فرع
المعلومات لأيام عديدة (نشرت «الأخبار» محضر التحقيق معه بعد صدور القرار
الاتهامي
المُفبركون أنفسهم والكذّابون أيضاًابراهيم الأمينمَن يعرض سيناريوات الأطراف المعنية بالمحكمة الدولية، داخلياً وخارجياً،
يجد نفسه أمام مشهد سوريالي، لا قاعدة له سوى الحسابات السياسية التي لا
تتّصل بأيّ عمل مهني ـــــ احترافي ذي صدقية. ومن أبدى إعجابه وموافقته
وثقته بمن جيء بهم من الخارج لتحقيق العدالة في لبنان، هو نفسه الفريق
الذي يحتاج بين وقت وآخر إلى تعديل في صياغاته وفي معلوماته وفي أدلّته
المفترضة، التي تقود إلى نتيجة واحدة هي: تصفية الحسابات بدل الوصول إلى
الحقيقة.
بعد أيام قليلة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، سارع
فريق سياسي وإعلامي وأمني محسوب على الولايات المتحدة الأميركية والأجهزة
الأمنية الغربية قبل أن يتألف في إطار لبناني، إلى وضع لائحته الاتهامية.
قرر فوراً أن كل خصوم الحريري في لبنان وسوريا والمنطقة هم من يقف خلف
الجريمة. ولم يمض وقت طويل حتى تحوّل الاتهام إلى شعار واحد أحد لكل نشاط
سياسي أو مدني أو إعلامي أو اجتماعي. وصدر نوع من الحرم على كل من يخالف
هذا الاستنتاج. وهو أمر قاده فريق بشري، له اسم وله عنوان وله هوية
وظيفية. وهو لا يزال حتى اللحظة ينتشر بيننا، بالأسماء والعناوين والوظيفة
نفسها، لكن مع لسان آخر، وشكل آخر من الحديث والإعلان.
هل يتذكر اللبنانيون السجال الذي دار حول ما إذا كان انفجار السان جورج قد
وقع من تحت الأرض أو من فوقها؟ هل تتذكرون تلفزيون «المستقبل» وبرامج
التسلية المسائية وهي تعرض الوثائق والمعلومات والخرائط؟ هل تذكرون محمد
قباني، كيف كان يعرض رأيه بصفته مهندساً وخبيراً أمنياً محلفاً؟ أو تذكرون
تصريحات بهية الحريري عن أن الدرك أتوا بقطع سيارة ورموها في أرض الجريمة
لتعمية الحقيقة التي تقول بأن الانفجار حدث من خلال عبوة زرعت تحت الطريق؟
هل تذكرون فريق الحريري ووليد جنبلاط وآخرين من أبناء وأولاد غازي كنعان،
وهم يشرحون لنا كيف أن رئيس الجمهورية إميل لحود وقائد حرسه الجمهوري
مصطفى حمدان أدارا الأشغال قرب مكان الانفجار ومررا المتفجرات؟ وكيف أن
الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية تولت عملية التنسيق؟ هل تذكرون كيف
امتلأت الشاشات والصحف والمنابر التي تشرح لنا كيف أن قادة الأجهزة
الأمنية اللبنانية، ومعهم قادة من أجهزة أمنية سورية، قد اجتمعوا في شقة
في الضاحية الجنوبية وخططوا للعملية ثم عمدوا إلى تنفيذها، لذلك قرر
القضاء اللبناني تنفيذ توصية ديتليف ميليس باعتقال الضباط الأربعة والعمل
على طلب اعتقال ضباط سوريين آخرين؟ هل تذكرون كيف أنّ قادة الأجهزة هؤلاء
هم الذين خططوا ونفذوا ومسحوا آثار الجريمة من دون أن يعاونهم أي شخص آخر،
لا مرافق ولا سائق ولا مخبر ولا عامل ولا أي أحد؟ هل تذكرون كيف اعتقل
الأخوان عبد العال لأنهما تحدثا على الهاتف مع القصر الجمهوري أكثر من مرة
بعد حصول الجريمة؟
هل تذكرون كيف تطابقت وجهة الاتهام ومشاعر الجماهير قبل حصول الاعتقال،
بأن رفعت صور الضباط الأربعة في التظاهرات؟ هل تعرفون كيف طُبعت هذه الصور
ومن تولى الأمر ومن رتّب شعارات الحقيقة وغيرها؟ أو هل عرفتم من كان يقف
خلف كل هذه الحيلة التي انطلت على الناس وأوقعتهم في رعب العدالة ما عدا
قلة قليلة صمدت وسرعان ما توسعت لتمنع تنفيذ مؤامرة قذرة شارك فيها وزراء
حاليون ونواب حاليون وسياسيون حاليون وقضاة حاليون وأمنيون حاليون
وإعلاميون حاليون ومخبرون حاليون؟
هل تذكرون كيف وصل ديتليف ميليس إلى بيروت، وكيف رُتبت أموره على عجل، من
اللقاءات الاجتماعية على أنواعها، الى رحلات الاستجمام على اختلافها، إلى
كل أنواع الإحاطة التي يشتهر بها ثوار الأرز وعملاء أميركا وغيرها؟
هل تذكرون كيف عُدّ كل من يعارض حكم 14 آذار شريكاً في قتل الحريري؟ وكيف
أن كل تحقيق أمني أو قضائي أو علمي يخالف نتيجة الاتهام السياسي هو تحقيق
مشبوه ومرفوض وملعون؟ هل تتذكرون كيف شُغل الناس في إعطاء تفاصيل لحكايات
ليست معروفة المصدر، ثم كيف كانوا يتوقعون الخطوات اللاحقة من الحرب على
المقاومة في لبنان؟ هل تذكرون كيف كان مقرراً إغلاق صحف بالمال أو القمع،
وكيف كان مطلوباً الحجز على محطات إعلامية تلفزيونية، وكيف كانت قوى
سياسية وشخصيات معرضة للاعتقال والتشهير لأنها لا توافق على الاتهام
السياسي؟
هل تذكرون كيف عاش اللبنانيون أشهراً طويلة في ظل استنفار لا سابق له
أمنياً وسياسياً وإعلامياً؟ هل تذكرون كيف وُجِّهت التحيات إلى الجيش
اللبناني لأنّه سهّل التظاهرات ثمّ كاد يُمنَع من التحرّك والعمل وأُغلقت
الأبواب أمام أي مساهمة لاستخباراته في التحقيق وخلافه؟
هل تذكرون شهود الزور الذين يجري تداول أسمائهم الآن، أو الذين لا يزالون
إلى اليوم طيّ الكتمان، وهم يقدمون لنا روايات لم يجرؤ كاتب بوليسي على
تخيّلها؟ وهل تذكرون كيف صار الناس يشتم بعضهم بعضاً في الشوارع، ويُطرد
هذا من عمله، ويُمنع آخر من دخول مدرسته أو جامعته، وكيف يُنقل هذا الموظف
من دائرته لأن أصحاب الياقات البيضاء لا يوافقون على وجهه ومحيّاه؟
كل ذلك حصل تحت ستار الغبار الكثيف لأكبر جريمة عرفها لبنان منذ نهاية
القرن الماضي. تلك الجريمة التي جرّت على لبنان ويلات ولا تزال، فيما نحن
الآن على عتبة فصل جديد من هذه الجريمة المتمادية.
خلال السنوات التي مرّت، شارك وزراء في الحكومات الثلاث السابقة، ونواب
بعضهم لا يزال في المجلس النيابي، وموظفون كبار لا يزال بعضهم في الخدمة
الفعلية، وقضاة لا يزالون يشغلون مناصب رفيعة، وضباط كبار من الجيش وقوى
الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية، وكوادر ناشطون في أحزاب سياسية وجمعيات
أهلية ومنظمات غير حكومية، وإعلاميون ينتشرون كالفطر في وسائل إعلامية
داخلية وخارجية... كل هؤلاء شاركوا في أقذر عمل استهدف النيل من أشخاص
ومجموعات بأكملها، ومن دولة وجمهور ومن مقاومة كانت ولا تزال هي الهدف. كل
ذلك، ولم يرفّ جفن لأحد من هؤلاء.
هؤلاء هم الذين كذبوا على الناس وتبنّاهم سعد الحريري، ثم صار يكذب مثلهم
على نفسه وعلى أهل بيته وعلى ناسه وجمهوره وعلى مواطني بلده. هؤلاء هم
الذين فبركوا الاتهامات والأدلة. هؤلاء أنفسهم يعملون اليوم على نقل
الاتهام مباشرة إلى المقاومة، وهم أنفسهم الذين يريدون جر البلاد إلى أكبر
الفتن والحرب الأهلية التي تنفخ في نارها خطابات السفهاء وقليلي الحياء.
هل يتحمّل لبنان مغامرة جديدة، أم وجب تكنيس هؤلاء من مواقع المسؤوليّة لمرّة واحدة وأخيرة؟