الصمت .. ملكَةٌ لا تعرف الثرثرة
وقفت ساكتا ً، ولو فهم الناس ما تقوله السكينة لكانوا أقرب إلى الآلهة منهم إلى كواسر الغاب ". " الكلام في كل مكان ، فإلى أين يذهب من يريد الهدوء والسكينة؟ " " ولكن محبتنا تقنعت بحجب الصمت ، فلم تستطع أن تعبّر عنها ".
هذه بعض الأقوال التي عبّر من خلالها جبران خليل جبران رؤيته له ، أما ميخائيل نعيمة فقال فيه:
"إن الصمت الذي أود أن أدخلكم إليه هو تلك الفسحة غير المحدودة حيث يتحول اللاوجود إلى وجود، والوجود إلى لاوجود. هو ذاك الفراغ الرهيب حيث يولد كل صوت ثم يخفت . وكل شكل ثم يسحق . وكل كلمة ثم تمحى . حيث لا شيء إلاه ." الصمت، كتب عنه الكثير من الأقوال التي اعتاد الناس على ترداد بعضها في حياتهم اليومية، ولعل أبرزها: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ".
كيف هي علاقة الشباب مع الصمت؟ يمر الشباب بمراحل مختلفة ، ومعظم الأحيان يكون سن المراهقة أكثر مراحل حياتهم كلاماً، إذ يحاولون إثبات شخصيتهم وإبراز ثقافتهم واطلاعهم . وقد تكون أول سنة جامعية من أكثر السنوات التي يشعر فيه الشباب برغبة في لفت الانتباه من خلال الكلام ، وغالباً ما يكون ذلك وسيلة يصنفهم من خلالها الأساتذة وطلاب السنوات الأعلى . الرغبة في الكلام تخف تدريجياً مع مرور السنوات ، ويصبح الشباب شيئاً فشيئاً أنضج ويفكرون جيداً قبل أن يتكلموا ، علماً أن ذلك لا ينطبق على كل الناس، إذ تكون الحالة عكسية مع البعض حيث تزيد رغبتهم في الكلام مع كل سنة إضافية تمر في حياتهم ومع كل معلومة جديدة يكتسبونها. ولكن هل يشعرون بذلك؟
تجيب بترا (25 عاماً) بابتسامة: "لا أظن أن الذي يتكلم كثيراً يشعر بأنه يزيد عن الحد المعقول ، بل على العكس أظن أنه مع الوقت يصبح لا يفوّت أي فرصة إلا ويفتح فيها أحاديث وأحاديث حتى لو كانت خارجة عن الموضوع ، ويصبح الكلام عادة متملكة فيه ومن الصعب أن يسيطر عليها" . وتؤكد ميرنا (26 عاماً) على كلام بترا، شارحة: "إني أدرس اللغة الاسبانية كلغة إضافية ، ورغم حبي لهذه اللغة ورغبتي في تعلّمها ولكني في أحيان كثيرة أشعر بالملل من الحصة بسبب زميل لنا في الصف ، ويبدو أنه تسجل معنا فقط ليبرز معارفه ، فهو لا يفوّت أي فرصة تخوله فتح أحاديث يظهر فيها ثقافته مع أنها في معظم الأحيان معلومات لا تهم أحد منا". وتتابع: "مع أن عمره يناهز الخامسة والثلاثين وواجب عليّ احترام فارق السن بيننا إلا أنه في بعض الأحيان يضايقني لدرجة أني أوجه له كلمات قاسية ليكف عن الكلام ، وحتى الأستاذ الذي يعطينا المادة يتأفف منه كثيراً ويوجه له الملاحظات ، ولكنه لا ينتبه لنفسه أبدا".
الحال مختلف عند مازن (28 عاماً) والذي لاحظ على نفسه أنه يتكلم كثيراً ، وكانت ملاحظة من أحد المقربين منه قاسية كفاية لدرجة جعلته يراجع حساباته ويفكر جيداً قبل أن يتفوه بأي كلمة. ويعلّق: "بلاء الإنسان من اللسان، وكثرة الكلام تجلب المشاكل للمرء ، وقد تتحول في بعض الأحيان إلى هزل يفقده احترام الناس". وفي هذا الصدد، يقول فراس (30 عاماً): "تعلمت الصمت من الثرثار ، وأصبح شعاري حتى لو كان ما نود أن نقوله درراً علينا أن نفكر مرات عديدة قبل أن نتفوه به ، لأن الكلمة كالسهم متى ما انطلق لا يمكن أن يعود أبدا".
في المحصلة، خُلق لنا النطق لأن هناك غاية من هذه الملكة التي يتميز فيها الإنسان عن الحيوان ، ولكن خُلق لنا العقل أيضا و يجدر أن يكون الحكم والحاكم في حياتنا ، ومتى ينضج العقل ينضج الإنسان. وإذا توقفنا عند الصمت والكلام قد يكون ناجعاً الختام ، كما بدأنا بأقوال الأدباء ، وتحديداً بما قاله ميخائيل نعيمة: " قد يكون الحرف إصبعا يدلّنا على مخبأ الكنز. ولكنه ليس الكنز . أما الكنز فمتى اهتدينا إليه أصبحنا ولا حاجة بنا إلى الحرف . فالحرف أعجز عن أن يصوّره".